بقلم السامي الإحترام جوزف أبو زهره

معظم المؤلفين والباحثين تناولوا عدة جوانب من “النظام والفلسفة الماسونية”. مواضيع تناولت بعمق او بسطحية العلوم الرمزية، او علوم الاجتماعات المحفلية، او المذاهب أو النواحي العلمية والفلسفية،  ولكن قلة منهم تناولت تاريخها بعمق.لا شك، هناك خيط رفيع يربط ما كان يسمى بأسرار، ونعني بها طريقة حفظها واستعمالها من علماء وكهنة العصور القديمة، ابتداءً من كنعان مروراً بالسومريين والبابليين، الى المصريين، الى بلاد الفرس، الى الهند، وصولاً لأيامنا،  انما لم تعد تشكل سرية هذه الاسرار ونظامها، استمرارية سرية في الماسونية اكثر من محطة تأملية لأنتقاء ما كان مبدعاً فيها وحفظه ضمن التراث والآداب الماسونية.اذ لا يمكن نقل تراث او فرضيات عبر آلاف السنين، دون اضفاء عنصر الزمن وعنصر الفلسفة وعنصر مفهوم الانسان في عقائده الدينية، والأخذ بها، كون الماسونية لم تكن بفلسفتها وعلومها مغلقة، او جامدة تجاه هكذا تراث.

    تناول الباحثون والمؤرخون البريطانيون جدياً التاريخ الماسوني، بوضوح ونوع من العلمنة، مستندين الى عدة وثائق قديمة، واستعملوا فن التنقيح عبر صفاء مذهل وجلد لانتقاء وترجمة الكلمات الصحيحة والمعبّرة، انما ظل عملهم ناقصاً،لأنه ظهرت عدة وثائق اخرى لم تؤثر على مجرى عملهم، انما خلفت ثغرات في ابحاثهم، ومن هنا لا يمكن تأريخ الماسونية اليوم بالاستناد الى المراجع الانكليزية، كان يجب انتظار اواخر القرن الماضي واوائل هذا القرن لظهور بعض المؤرخين الالمان واضافة مجهودهم للاستيضاح عن بعض الحقائق التي خفيت على من تناولوا هذا الموضوع سابقاً.

    لقد اختلط الامر على هؤلاء الباحثين ولم يضعوا حداً شفافاً، ما بين تاريخ الماسونية

وفرسان الهيكل، ما بين الماسونية والاسرار القديمة، واخذوا بحرفية النصوص الهرمسية

والفرعونية ورموزها ونظرتها الرائعة الى الاله، دون تطور هذه الفكرة مع الزمن، ونظرة

الاديان السماوية الى الاله، او الله الواحد بمفهومه الديني، وهنا اختلط الامر ايضاً على العامة

فألصقوا بالماسونية تهمة الالحاد.

    وباختلاط الأمر على المؤرخين، بين تاريخ الماسونية والرجوع بها الى اساطير الشرق

واساطير بلاد الفرس وعلوم “الروزكروسيين ” Rose Croix ، اختلط على العامة الأمر

والصقوا بالماسونية تهمة السحر والشعوذة.

    وباختلاط الامر على المؤرخين بين الماسونية والقبالا التوراتية، وحرفية نصوص الرؤيات

والعلوم الغنوصية والتيوصوفية،  اختلط الامر على العامة والصقوا بالماسونية تهمة “الدين الطبيعي”.

كذلك اختلط الأمر على هؤلاء المؤرخين في بناء الكاتدرائيات والمعالم الاثرية في العصور الوسطى

 وتزيينها بحس فني اسطوري- ديني، كما كانت آداب وفنون العصور الوسطى تسمح بذلك الفن،

واختلط الامر على العامة، والصقوا بالماسونية فكرة مسخرة الله والدين في نصوص وصور

وجدرانيات شبه وثنية، واسألوا التقاليد الكنسية في ذلك الوقت عن هذه الاسباب.

    في كتابة التاريخ في الماسونية وكتابة التاريخ في كل تنظيم يشابهها، على المؤرخ ان يميز

بين الفكر والشكل، بين الروح وجسد الموضوع، عليه ان يميز بين ” الماسونية

La Franc- Maçonnerie ”  واتحاد التنظيمات الماسونية La Société des Francs Maçons،

 الفكر في هكذا بحث، يعلو غالباً منطق التاريخ، ويبقى مستقلاً عن كل التنظيمات الماسونية

المتعددة الوجوه.

    من هنا، عدة خيوط تفرض فكراً معيناً، وتكريساً معيناً، يجب ان يعلو على النصوص،

واهمها الاقرار باله واحد، خالق الكون ومبدع كل الجمالات فيه.

    هذه الفكرة الابدية يجب ان تكون كونية ومتخذ بحرفيتها من كل الاجتماعات المحفلية الكونية،

وكذلك النور الالهي والنور الفكري.

    من هنا يبقى تاريخ التنظيمات الماسونية وهذا التاريخ يخضع لتقلبات الازمنة والامكنة ورجالات

الفكر التي قادت الماسونية الكونية، منها نصل الى خلاصة افتراضية، ليس الخطأ في تاريخ

المحافل الماسونية، والتي بمجموعها تشكل الماسونية الكونية، كون هذا التاريخ خاضع لمتغيرات

لا ينقض جوهر الفكر الذي يجب ان يسيطر دائماً ويبقى.

    ان الفكر والشكل هنا، لا يتعارضان اكثر مما يتكاملان في اثبات التاريخ العام للماسونية اقله

في الزمن والمكان. انما هذا التكامل يطرح علينا سؤالاً مهماً، وهو كثرة الجذور التي يدور حولها

النظام الماسوني، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر.

    هل الماسونية ابتدأت جذورها في الحضارة “الهندو اوروبية ” ام “اليونانية ” ام ” المصرية ” ام

“الرومانية” ؟

    هل فكرها وفلسفتها مستمدة من التنظيرات “الفيتاغورية ” ام ” شيعة اهل قمران” ام “مجمع اثينا”

ام ” مجمع الاسكندرية ” ام ضمن التنظيم المسيحي في عصوره الاولى،ام التنظيمات الاخوية

“كالبنديكتين Benedictins  “، ام تنظيم “الصليبيين “، ام ضمن “الروزكروسيين Rose Croix  “

  ام ضمن ” المنوّرين ” ؟

    قد يبدو للعامة ان هذه التنظيمات وغيرها التي لم يرد ذكرها، كانوا ماسونيي عصرهم معظمهم

تلاشوا في التاريخ كفكر وتنظيم وبقيت الماسونية. ولماذا ؟

    لأن هؤلاء يؤلفون بعض الحلقات الضعيفة من تكامل الحلقة الماسونية التي امتدت عبر العصور

 الى كافة اقطار العالم ولا تزال. ولأوضح فكرتي اكثر، هذه التنظيمات نهلت بعضاً من مبادئها

وافكارها من النظام الماسوني التي تأثرت به وتركت اثارها التاريخية دون ان تتأثر الماسونية بها.

    على الباحثين في التاريخ الماسوني، ان يصعدوا مجرى النهر ليصلوا الى النبع، الى النظام

L’ordre  “،  دون ان يتوهموا في الجذور التي تغذي هذا النهر اوالسواقي التي تفرّعت منه.

يكمن السر هنا : على كل باحث ان يتوجه نحو الشرق،  لأن الشرق هو النبع الرمزي والفلسفي

للتنظيم الماسوني، واعني بالشرق هنا، لبنان الفينيقي الكنعاني الذي منه استمدت الماسوينة اصولها

وجذورها ونظامها الحضاري.

ولماذا لبنان ؟

         يبرزُ لبنان من ضباب ما قبل التاريخ في ظلّ شعارٍ مثلّث :

 الايمان بما وراء المادة، الاخذ بروعة الجمال، السعي في تحقيق الذكاء.

 ويكون الشعبُ اللبناني في العهد النيوليتي – اي قبل ستة آلاف سنة – اوّل من ينتقل  من الكهوف، والمغاور، والسهول، الى البيوت المفردة. فيبني المنزل، والقبر :

 بيتَ الكائن الحيّ، ومستقّر الميت، ويُنشئ المدينة والمقبرة، واضعاً أسس الحضارة المستقرة في المدينة، وهو معنى التمدّن. واذا كان لنا ان نتعمّق في دراسة

 هذه الحضارة اللبنانية، أمكننا ان نرد خصائصها الى ثلاث : مادية، وعقلية،  وروحية، نراها رافقت اللبنانيين في جميع آثارهم على تتابع العصور، وتطوّر  الاحوال، فتميزت حضارتهم عن غيرها من الحضارات العريقة، واذا بها حضارةٌ  شعبيةٌ مُخالقة مُسالمة، لا حضارة ملوك وأباطرة متسلطين، كالفراعنة وطُغاة أشور  وبابل، ولا حضارة قبائل مكتسحة كالهٌون، والمغول والتتر.

 اما الصفة المادية في الحضارة اللبنانية، فأوّل ما تبرز بالبناء، أسس كل حضارة،

 خرج لبنان بواسطتها منذ فجر الالف السادس، من السهل ومن الكهف، الى  الانفراد بالبيت يبنيه، اولاً كوخاً مستديراً على ارض مرصوفة، ثم حجراً منصوباً  على زوايا مستديرة. ويرتقي اللبناني بالبناء، وينشره في رحلاته، حتى يُعرف  به في العصور القديمة، فيشيّد المدن المفنّنة التخطيط، المنيعة الاسوار،

 المتناسبة التقاطيع، الحافلة بالهياكل الشامخة، والدارات الفخمة، والصروح  المتعددة الطبقات، ومن ضيق الارض الى فسحة الجو، ناشراً ناطحات السحاب في  جميع حواضره شرقاً وغرباً، من أراد الى صور، الى قرطاجة، الى صنعاء  اليمن، ويقيم في ميناء صور مرفأ مرصوفاً لا يزال طرفة المهندسين وعلماء  الملاحة، ويرتفع من تحسين العمل الى تجريد النظر، فيدرك اصول الهندسة  المعمارية، ويصبح استاذ الفن البنائي.

 فاذا شاء سليمان الحكيم، في القرن العاشر قبل الميلاد، ان يرفع للعلي بيتاً به، لجأ  الى المهندس اللبناني حيرام، فأخرج الهيكل اعجوبة الفن جمالاً وتناسباً، واذا اراد  صاحب سفر ” الامثال ”  استعارة يمثّل بها ثبات صرح الحكمة، لجأ الى الاعمدة  السبعة الاساسية في بناء البيت اللبناني الاصيل.

 واذا رغب بول فاليري، في القرن العشرين بعد الميلاد، ان يضع عنواناً لأبحاثه  في اصول الجمال، لم يرَ الا اسم المهندس اللبناني اوبالينوس يتوّج به كتابه  النفيس، واوبالينوس هذه هو صنو قدموس في حكاية نشر الفكر بادئاً بتعليم  اليونان، معلمي العالم. علمهم قدموس الابجدية، اي عمارة العقل، وعلمهم  اوبالينوس البناء، اي عمارة البيت والهيكل.

 فحفظوا عنه الآيات المحكمات في اصول الفنون عامة، وتوّحدها في البناء التام  المتناسب الاقسام، المتساوي الاجزاء والتفاصيل الى احداث الروعة الشاملة. ورددوا  ما كان يردده على تلاميذه في رواية فاليري :

 ” اريد ان يحرك هيكلي الناس كما يحركهم الكائن الحبيب”.

 او نستغرب بعد هذا،  ان يكون التناسب اسس الفن  اليوناني، بل اسس كل  بناء مادياً  كان ام عقلياً، في فنوننا وصناعتنا العريقة، في اسوارنا الجبارة التي ترّد امواج البحر وتدفق الغزوات، في هياكلنا وقلاعنا الرابطة في اخصب السهول، والساهرة على اخطر  الممرات، في تصميم بعلبك خاصة، في أنصاب امّ العواميد، في تماثيل قرطاجة، في  محفورات العاج الدقيقة المنتشرة عنا في  متاحف العالم،  في دُمى الحيوانات  الرشيقة الآهلة في خزائن مُتحفنا،  في قرانا العالقة بالآفاق حيث تساهر الكواكب منذ  تفتحت عين الانسان على جمال النجوم، في بيوت فلاحينا الآخذة بالاتقان، المختالة  بالنظافة والترتيب، في مهاوي جبالنا المزنرة بالسلاسل، المدرجة « بالجلول »

 تحفظ التربة وتنمي الزرع، في خاناتنا وفنادقنا القائمة محطات للصناعة ومعالم  للتجارة منذ القرون الوسطى،  في قصورنا وداراتنا الصاعدة، وشعراءنا  وكتابنا وفلاسفتنا، من  جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة ، خليل مطران،  سعيد عقل، الياس ابو شبكة، وغيرهم…

Spread the love