الأستاذ الأعظم موسى برنس
الماسونية الحرة والدين، او سوء العلاقة الوهمي؟
ان العلاقة بين الماسونية الحرة والاديان – ولا سيما التأليهية منها – قد اتخذت عبر القرون اشكالاً مختلفة.
سنتوقف قليلاً عند الكنيسة وبعبارة ادق، عند الكنائس لنتأمل فيما بعد العلاقات مع الكنيسة بخاصة، لنقول في آخر الامر ان كل شيء كان يتوقف في العالم المسيحي على مسألة موقف “الاصوليين ” في السلطة الكنسية.
من هنا يمكن القول منذ الآن ونهائياً ان تلك العلاقات كانت بالغة التوتر، خاصة في اوروبا، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
ولكن تلك العلاقات بين الماسونية الحرة والعالم المسيحي كانت على ما يبدو في طريق التحسن منذ الحرب العالمية الاخيرة وحتى ايامنا هذه.
من الوجهة التاريخية، كان القران بين المحافل و الكنيسة، في مستهله، زواج حب أبصر النور مع بنائي الكاتدرائيات. واحتفل بهذا الزفاف في القرن الثامن عشر في انكلترا، البلد المحب للنوادي والمناقشات. بعد قرن واحد كان الزواج يتخبط في مأزق، مما حمل جان بول جتني (J.P. Guenty ) على وصف ذلك الوضع ” بالأست المباركة ” الظلامية من جهة، والبناء الحر ” ملتهم الخوارنة ” من جهة اخرى. وبدت الامور بين المحافل والكنيسة تصب في خضم من الاحرام المتبادلة، الى حد نسيان تلك الاخوة الاصلية “او زواج الحب ” الاصلي كما وصفه بدوره لوك نوفونتين ( Luc Nefontaine ) الاختصاصي الكبير بهذه المسألة.
في البدء كانت الماسونية المهنية نسبة الى بنائي الكاتدرائيات وكان البنّاء الحر في القرون الوسطى – حسب دنيال برنزياك ( Daniel Berenesiak ) كاثوليكياً رومانياً ولربما جاز القول انه كاثوليكي قدّ من صخر. وتحولت الماسونية من “مهنية ” الى “مقبولة ” الى “تأملية نظرية ” وان كان الخط الأحمر الفاصل بين تلك الحقبات الثلاث دقيقاً للغاية واكثر ميثولوجية من كونه واقعياً. وكانت الماسونية التأملية التي نعرفها اليوم قد ولدت في مطلع القرن الثامن عشر في وسط انكليزي، كما سبق ذكره، وهو الاكثر تسامحاً في ذلك العصر، يهوى اللقاءات والمناقشات، كما كتب “لوك نوفونتين ” برزت فيه الأندية – ارواءً لعطش حسن المعاشرة، وتطلعاً الى اتحاد يتعدى الحواجز المذهبية. وكانت الاهداف التي سعى اليها القسيسين اندرسون(Anderson ) ودزاغولييه ( Désaguliers ) وغيرهم توطيد “اخوة تعددية ” وتجاوز خلافات ذلك العصر، اي ” مسكونية ” حقيقية قبل النص كما يقتضي الاعتراف به؟ وهكذا كان مفهوم الماسونية التأملية في الأصل كحركة ضمن وسط مسيحي. ومنذ العام ۱٧۱٦ بدأ اليهود يتخطّون عتبة المحافل وكان اندرسون نفسه مؤيداً لقبول المسلمين والهندوسيين والباريسيين على ما يبدو . وكانت الطبعة الثانية ل “الدساتير ” في العام ۱٧۳٨ اما الاولى التي نشرت عام ۱٧۲۳ فكانت تصف الماسونية ب ” نوحي ” Noachide حقيقي اي من اتباع نوح . مما يحتّم رفض عبادة الاوثان اخذاً بعين الاعتبار للعلاقة بين المخلوق وخالقه ، ثم نبذ العنف وفساد الاخلاق . ان الرجوع الى “النوحية” هو ذو مغزى ، فأندرسن يُرسي قاعدة مشتركة للبشرية ولعهد بين الله والانسان سابقة لظهور أي دين معين .
وبالتالي، وبعيداً عن مظهرها كآلة حرب ضد المؤمنين فان الماسونية الاصلية كانت تقصد بالأحرى تقديم المزيد من الروح والاخوّة التي تجد الديانات الكثير من الصعوبة لتوفيرها، بالرغم من نواياها الحميدة المعلنة، مما يقتضي الاعتراف به.
بتاريخ ۱٥ آذار ۱۹۹٥ كتب لوران غريبوفسكي ( Laurent Greybowski) مقالاً تحت عنوان “الكاسيت الشيطانية ” “La cassette satanique “ التي نشر مضمونها في ملف “الحالية الدينية ” L’Actualité Religieuse عدد ۱۳۱ جاء فيه:
آذار ۱۹۹٤، انه في خلال مؤتمر صحفي عًقد في مقر المحفل الاكبر الفرنسي في باريس، اعلن “المونسنيور جان شارل توما( Mgr Jean Charles Thomas ) مطران فرساي، والاستاذ الاعظم جان لويس ماندينو (Jean Louis Mandinaud ) صدور كاسيت فيديو اشترك فيها الطرفان وعنوانها ” الحديقة المستورة، نظرة على البنائين الاحرار الكاثوليك في فرنسا ومرّ هذا الخبر بشكل غير ملحوظ تقريباً، بالرغم من انه كان حدثاً هاماً في حينه.
في هذا الشريط، ثلاثة ماسونيين احرار من اجيال مختلفة يشهدون: وبذلك، خرج الى العلن اولئك الذين يتخوّف البعض من سريتهم احياناً… يشهدون خاصة بانتمائهم المزدوج الى الكاثوليكية والماسونية الحرة ويتحدثون عن الطريقة التي يوفقون فيها بين ايمانهم والتزامهم الماسوني، ثم يتحدث “المونسينيور توما ” والوزير السابق “هوبير جرمان “(Hubert Germain ) الكاثوليكي الماسوني عن لقاءاتهما والحوار القائم بينهما منذ اربع سنوات. من كان بامكانه ان يتصور قبل سنوات قليلة حدوث مثل هذه الظاهرة التي سنعود اليها في نهاية دراستنا؟ ليس بعيداً زمن اللعنات، والأقرب منه عهداً الوقت الذي نشر فيه المجمع من اجل معتقد الايمان تصريحان اكد فيه مجدداً التعارض بين الانتماء الى الكنيسة الكاثوليكية والماسونية الحرة، وكان ذلك في تشرين الثاني ۱۹٨۳.
صاحب هذا التحذير، الكاردينال Ratzinger و لأسباب وجيهة لم يدركها احد اعلن في حينه ان، الكاثوليك المنتمين الى الماسونية، هم في حالة الخطيئة المميتة ويُحظر عليهم التقدم الى المناولة المقدسة. ومع ذلك فان الحق القانوني ( الشرع الكنسي ) الذي صدر في السنة ذاتها كان قد الغى المواد التي تستهدف البنائين الاحرار وخاصة القانون ۲۲۳٥ الذي يحرم حكماً كل شخص ينتمي الى محفل ماسوني.
والقانون الجديد يكتفي فقط بشجب موقف كل الذين “ينتمون الى جمعية تتآمر على الكنيسة؟ وهذا امر طبيعي. ويحق القول انه منذ سنوات عدة، وخاصة بعد المجمع الفاتيكاني، لا يزال الحوار بين الكاثوليك والبنائين الاحرار يسجل تقدماً.
” في البدء كان الكلمة “. بالاستناد الى هذه الشهادة التي يستهل بها يوحنا انجيله، اتخذ البعض موقفاً بالغ الوضوح. ولقد رأينا ذلك في قضية كاسيت الفيديو الآنفة الذكر وسنعود اليها لاحقاً لمزيد من الشروح.
ومع ان الماسونية الحرة هي ابنة البروتستانتينية البريطانية المتعددة الأوجه فما لبثت ان تأقلمت ايضاً مع الارض الكاثوليكية. واثباتاً لعدم ايذائها على الصعيد الديني واقع الامر في بلد كفرنسا حيث تضم المحافل اليها اعضاء جدد من رجال الاكليرس. وفي الوقت الذي بدأت فيه البابوية تستشيط غضباً على الماسونية، اي في النصف الاول من القرن الثامن عشر “كان حوالي الالفين من رجال الاكليرس، حسب جان بيار فياليه ( Jean Pierre Viallet )يترددون على محترفات القارة القديمة، ويلاحظ المؤرخ الماسوني البرت لانطون (Albert Lantoine ) ان كلمة ثوب كهنوتي كانت بمثابة جواز مرور دون حاجز الى داخل جمعية الاخوان المحترمة. ويلاحظ مثلاً ان محفل الاخوات التسع وهو محفل فولتير ( Voltaire ) الذي يمكن وصفه بمكرّس الساعة الاخيرة، كان عدد الاكليرس لا يقل عن الثلاثة عشر . ولكن من هو المسؤول عن فصم سحر هذا الوئام ؟ ولنعد من اجل ذلك الى التاريخ . منذ اعمال “خوسيه أ . فيرير بنينلي ( José A. Ferrer –Beninelli )اليسوعي الاسباني والاستاذ في جامعة “سرغوسه” ، وصاحب اطروحة ضخمة عن “الماسونية ، الكنيسة والانوار” ، يؤكد هذا الاخير ” لاشك بعد اليوم ، انها السلطة المدنية ” . وسوف نرى ذلك بصورة اكثر تفصيلاً في موضوع سنعالجه حول “الماسونية الحرة والسياسة” ، حيث “المؤامرة الماسونية ” التي لا وجود لها في الحقيقة تحتل مكان الصدارة . الماسونية تزعج . والسلطة الكنسية الكاثوليكية لا تلبث ان تنطلق . وما كاد القرن الثامن عشر يصل الى وسطه حتى كانت البابوية تفتح النار مرتين ، الاولى تحت لواء اكلمندس الثاني عشر (Clement XII) ( في ۱٧۳٨) والثانية في عهد بندكتس الرابع عشر ( Benoit XIV)۱٧٥۱. المآخذ ؟ فساد الاخلاق المفترض لدى الماسون ، السر مع لازمته ، القسَم على الكتب المقدسة الشك بهرطقة الذي يجرؤون على الاجتماع مع الآخرين ، واخيراً اللاشرعية . في بلدان “التفتيش ” (اسبانيا ، البرتغال ، وقسم من ايطاليا ) كان الإنتماء الى المحافل يُقمع في اكثر من الاحيان ، والتهديد والوعيد الروماني لم يلقَ الا اللامبالاة. ويلاحظ ان البابوات لم يثيروا على الاطلاق موضوع “دساتير ” اندرسن ولم ينددوا بأصل الماسونية البروتستنتي مثلاً .
من جوهرها المسيحي في الاصل، ستتخذ الماسونية اتجاهين متناقضين. و لكن الكنيسة الكاثوليكية على ما يبدو لم تكن تجد ما يناسبها لا في الصيغة النيّرة القومية ولا في الصـيغة التـوفيقية–الروحية لدى الماسونية.
ويلاحظ “جان – بار فياليه ” ان جميع بابوات القرن التاسع عشر خصصوا على الاقل منشوراً بابوياً للتنديد بالجمعيات السرية وعلى الاخص بالماسونية.
و لم تكن الاعتبارات السياسية غائبة لا سيما اذا كانت البابوية موضوع تهديد في سلطتها الزمنية من قبل المتآمرين من اعضاء المحافل (ابتداءً من غاريبالدي Garibaldi). ولكن مع الوقت اخذت الحجج من النوع اللاهوتي تطغى على غيرها. وقد بلغ الهجوم البابوي ذروته ضد ” ابناء الارملة ” في منشور البابا لاوون الثالث عشرLeon XIII ) ( Humanum Genus) ۱٨٨٤) الذي يتحدث عن جمعية ثورية اوليغَريكية “طبيعية ” لا تهدف الا لعلمنة المجتمع “.
في فرنسا، بدأ الكاثوليك يهجرون المحافل اعتباراً من تاريخ معاهدة ۱٨۰۱اذ اصبحت الاحكام العقابيّة البابوية نافذة على ارض الوطن. منذ ذلك الحين اصبحت المعسكرات واضحة الحدود بحيث امكن بدء القصف المتبادل. ويبلغ الصراع ذروته عند حدود القرن التاسع عشر والقرن العشرين. في العام ۱۹۲۲ اكتسب مستودع الذخيرة الكاثوليكي سلاحاً جديداً: ” المجلة الدولية للجمعيات السرية ” لمؤسسها المونسنيور جوان الذي ابتدع فكرة اليهودية – الماسونية المبنية على وثيقة مزورة ذات شهرة لا بأس بها اختلقتها فضلاً عن ذلك الشرطة القيصرية: “بروتوكولات حكماء صهيون “. اتت هذه الوثيقة على ذكر المؤامرة اليهودية المزعومة ضد العالم والتي سوف يكون الماسون دُماها اللاواعية. وسنعود الى هذا الموضوع بشكل مطول في الوقت المناسب وخاصة في دراسة الماسونية الحرة والسياسة.
و من ثم تطوّرت الكنيسة، فيما اخذت الماسونية العلمانية تضع حداً لمعاداتها العنيفة للاكليرس، و في المجمع الفاتيكاني الثاني وُجد من يقوم بإثارة “الموضوع الشائك ” على مدى الازمان. وهذا الرجل هو مطران كويرنا – فاكا في المكسيك المونسينيور ماندس اركيو. في عشيرة البنائين الاحرار، قال المطران المذكور، هناك لا شك عدد لا بأس به من اعداء المسيحية، ولكن هنالك عدداً اكبر يؤمن بالله وبوحيه ويفتخر بكونه مسيحياً. من هنا بدت بوادر مصالحة ما ممكنة وحصل بعض التقدم بهذا المعنى بفضل التصريح عن الحرية الدينية الذي صدر عن ذلك المجمع وازالة الدغل من الارض التي تولتها حفنة من التقدميين من الطرفين. وهذا بالرغم من بعض المواقف المؤسفة التي اتخذها المطارنة الالمان في ايار ۱۹٨۰ والمجمع لأجل معتقد الايمان في تشرين الثاني ۱۹٨۳ الذي اعلن “عدم تغيّر حكم الكنيسة السلبي على الجمعيات الماسونية، وبالرغم ايضاً من بعض التشجنات التي ابدتها المراجع الكاثوليكية العليا.
والكنيسة الرومانية، بشخص رئيسها الاعلى واكثر من اسقف فيها، وضعت الماسونية الحرة في قفص الاتهام، ولكن لا يمكن الاعتقاد بان هذه المؤسسة لم تتلق بعض ضربات المخالب من العالم البروتستنتي مع ان مبدأ الانتماء المزدوج الى هذه الكنيسة والماسونية مقبول على العموم خلافاً لما هو في الكاثوليكية. الا ان الكنيسة الميثودية مثلاً تنصح اعضاءها بعدم التردد الى المحافل فيما يتوجب اعفاء “الكويكرز ” من القسم. وفي العام ۱۹٨٧ ولدى انعقاد السينودس العام للكنيسة الانجليكانية في “يورك ” وصفت هذه الاخيرة حسب نوفنتين Nefontaine ، بعض الطقوس الماسونية بأنها غير منسجمة مع الايمان المسيحي وحتى بانها تجديفية، من جهة اخرى يلاحظ جان بيار فياليه بأنه في المانيا قام البروتستني ايكارت Eckart ، بالتنديد الاكثر عنفاً منذ منتصف التاسع عشر، بدور العشيرة الخفي، في ربيع الشعوب والاحداث الثورية.
اما لجهة اليهود، فكانت اول اشارة الى يهودي ماسوني عام ۱٨۱٦ ويدعى “فرنسيس فرنسيس”(Francis Francis) ولكن بقيت هنالك آثار لقرارات تفريقية في المحافل الانجليزية.
عام ۱٧٧٤ أسس فارس فرنسي يدعى بيار دي سيكار ( Pierre de Sicard)في مدينة “لياج ” محفل اتحاد القلوب . ويشير “دنيال برنزياك” الى نظام خاص بهذا المحفل ينص على ان اليهود والمحمديين والغوط وغيرهم من “الامم” الذين ليس لهم الا الختان كمعمودية لا يمكنهم ولوج ديارنا الا بعد اغتسالهم بالعماد المقدس . وهناك حالة اخرى اكثر شهرة ، هي قضية موسى مندلسون (Moïse Mendelsohn) ۱٧۲۹-۱٧٨٦ الناطق بأسم حركة “الانوار ” الالمانية والمناصر للعقلانية اليهودية والذي اصيب بخيبة امل كبرى لعدم تمكنه من اتباع اصدقائه المسيحييين الى المحفل وهم ” نيقولايNicolaï ” ، ” فون دوم Von Dohm” ، وخاصة لِسّنغ Lessing .
تحفظ ماسوني ازاء اليهود ولكن ايضاً تحفظ يهودي إزاء الماسونية، لأن المحافل حسب قولهم، مطبوعة بروح المسيحية، ولكن لا بد من الاشارة تاريخياً الى ان هذه المحافل كانت في الواقع اداة اندماج للمنبوذين.
ولما كانت اوروبا مهد الماسونية فقد “صدّرت ” وليدها على مدى مغامراتها التجارية او الاستعمارية. والسؤال هو اذا كان سيلقى الحفاوة في ارض الاسلام؟ كان الغرب يعتقد في القرن الثامن عشر، واستمر هذا الاعتقاد طويلاً، بان دين النبي العربي هو اكثر الديانات تسامحاً، في اواسط القرن الثامن عشر كان لسيدي حامد Sidi Hamed، إمام مسجد بجايا في الجزائر تصريح مفاده ” ان المسلمين يُعلّمون عقائد ليس لها اي طابع حصري وتنسجم تماماً مع العقيدة الماسونية. لذلك فليس على مؤسستنا ان تتخوف في الديار الاسلامية من المقاومة التي يبديها الاكليرس في البلدان الكاثوليكية. بالنسبة لعصرنا، يبدو اذاً ان الجبهات باتت مقلوبة كلياً.
كيف ستجري الامور في الواقع ؟ حسب “تييري زاركون Thierry Zarcone ، ان الماسونية الحرة أدخلت في وقت مبكر الى الامبراطورية العثمانية ، حوالي عشرين عاماً بعد إعادة تنظيمها في انجلترا عام ۱٧۱٧ تقريباً ، في نفس الحقبة التي صدر فيها دستور “In Emminenti ” للبابا “اكليمندس الثاني عشر ” . انتشرت رقعة الإدانة الكاثوليكية وحذت البطريركية الاورذوثوكسية ثم الارمنية حذوها ، ولكن لا بد من الاشارة فيما بعد الى ان البطريريك اثيناغوراس Athenagoras تكرس ماسونياً في الولايات المتحدة .
“وما عدا بعض الاستثناءات ، حسب “زاركون ” عينه ، كان لا بد من انتظار منتصف القرن التاسع عشر لولوج المسلمين الاول لابواب المحافل . وكان النجاح صاعقاً على ما يبدو في العام ۱٨٦۹ اذ احصي ٥۳ مسلماً من اصل ۱٤۳ متقدماً . واثناء انعقاد المحافل كان القرآن الكريم قد وجد مكانه على العموم الى جانب الكتاب المقدس ، فيما كان الامير “عبد القادر” الماسوني الرفيع المقام يقود المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر . كان المسلمون ينظرون الى الماسونية كجمعية اخوان . “وقد تم اكتمال القران بين الماسونية والاسلام بصورة اساسية تقريباً عن طريق الصوفية ، بحسب “زاركون ” ايضاً ، وقد تعدّى حدود الامبراطورية العثمانية الى باقي العالم العربي وحتى ايران .
فبين الصوفية والماسونية جامع مشترك هو البعد الطقسي والبحث الميتافيزيقي والروحي ، لذا حصلت الاتصالات من الجهتين . والصوفية التي احتكت بالماسونية لم تحتفظ من الدين الا بال “مظهر الاعلى ” رجوعاً الى تعبير “زاركون ” . وكان من شأن هذا اللقاء بين الجمعيتين نقل واستيعاب وبث الافكار الاوروبية في الثقافة . وكانت الماسونية الصوفية البوتقة التي انصهرت فيها تركيا الحديثة . ولكن فيما بعد تبدلت الايام والآداب . واليوم ، كما يلاحظ ” لوك نوفونتين ” في ارض الاسلام ان جمعية من اصل غربي تشيد بحرية الاجتماع وحرية الفكر لا يمكن التغاضي عنها ، فضلاً عن ذلك ، كان على البنائين الاحرار الذين يُعتبرون بغير حق عملاء للصهيونية ، ان يلتزموا الحذر.
طويلة هي لائحة البلدان التي ليست فيها للمحافل الماسونية حق الاستيطان في هذه الايام ، وذلك لاسباب سياسية او دينية ، لان القاعدة العامة ، كما سنراه في حينه ، هي ان الانظمة التوتاليتارية اليمينية او اليسارية تشترك في العداء للماسونية . فالسادة “سلزار” و”هتلر” و”ستالين ” وامثالهم من عالم الدكتاتورية الملحدة او الدينية السياسية كانوا امثلة حية على ذلك .
وبالعودة الى الديانة المسيحية وخاصة الكنيسة الكاثوليكية ، اليس لنا الحق بالتساؤل اذا كان الحق القانوني الحالي ، يكتفي “برفض ” او “الحكم بالهلاك الابدي ” حسب لغة اللاهوت على اولئك الذين ينتمون الى جمعية تتآمر ضد الكنيسة . ولكن من المفروض ايضاً التثبت من ان الماسونية الحرة ، تتآمر ضد الكنيسة ، ولو ان شخصية “دجنان قارح تاجر “
Djennan Kareh Tager تتحدث عن مؤامرة ماسونية مزعومة ، وهي تكتب ، بمثابة مدخل الى ذلك ما يلي :
“تأملوا خريطة مترو مدينة موسكو . تفحصوها جيداً . اقلبوها الى جميع الجوانب ، فلن تروا فيها شيئاً اكثر من خريطة . انكم عميان ، ان اناساً آخرين اكثر اطلاعاً منكم يعرفون كيف يلمسون فيها رموزاً ماسونية ويقدمون بذلك البيّنة على ان الغاية هي تحويل سفلية المدينة الى ما يشبه جبنة “الغرويير ” . الى ذلك ، من واجبنا ان نذكّر ان كاهناً ماسونياً ، في مقابلة له مع جان بول غتني ” حول الماسونية والدين ، تساءل : ما هو الفرق ؟ ولكن ليجيب بنفسه عن السؤال قائلاً : ” سوف اتحدث بالاحرى بعبارات تكاملية . يبدو لي انها واضحة التعبير في علامة الصليب المكونة من خط عمودي وخط افقي . الديانات تؤلف الخط العمودي وتحمل الى الانسان رسالة الألوهة . الماسونية تمثل البعد الافقي وهو الاخوة . لا يكتفي الماسون بالاخوة بين البشر ، فهنالك ايضاً الاخوة مع الكون ولا يجوز التنكر للخلق في هذا المضمار . كان غالباً خطأ الكنيسة اعطاء رسالة بدون اساس . بدون قاعدة : كيف لنا ان نتفهم تعليم المسيح دون الاخذ بعين الاعتبار انه كان حرفياً وانه كان يستخدم بعض الادوات . الانجيل يعج بالرموز : شكل الصليب ، الزوايا الاربع ، الوسط ، الاتجاهات ، الشرق ، اكليل شوك المسيح الذي قيل انه كان من السنط (الاكاسيا) . الماسون لهم ميل خاص للأكاسيا التي ترمز الى خلود النفس وعدم قابلية التعفن . الم يرد في تايخ العهد القديم ذكر شخصية ما لبثت ان فرضتها هيبتها . انها شخصية “حيرام ” الذي ورد ذكره في الاصحاح الاول من سفر الملوك (٧ ، ۱۳- ۱٤) وفي الاصحاح الثاني من سفر الاخبار (۲‚۱۲) والذي كان الاستاذ المهندس لهيكل اورشليم . وقد عثر على جثمان ابن صور و”الارملة ” بفضل عرق من السنط خارج من الارض . ولكن لنذكر هنا بأن الحرم كان قد رفع عن البنائين الاحرار في المجمع الفاتيكاني الثاني الاخير . ولكن ردة فعل ورثة ” محاكم التفتيش ” لم تتأخر فقد نشر مقال بالغ الاهمية في “الاوسرفاتوري رومانو ” (Osservatore Romano ) يبدو انه يعود عن قرارات ذلك المجمع بالرغم من الفارق بين الماسونية المؤمنة التي تقسم اليمين على الكتب المقدسة والجمعية الموصوفة بالملحدة التي تقسم على السيف . ان “مهندس الاكون الاعظم ” ليس دائماً موضوع قبول لدى الكنيسة ، وتؤكد صحيفة الفاتيكان مرة اخرى انه لا يمكن التوفيق بين الايمان المسيحي والماسونية ، فتعود هكذا بدورها الى منشور البابا لاوون الثالث عشر لتستنتج “بأن الانتماء الى صفوف الماسونية يعني الانفصال عن الكنيسة ” . وهكذا يبدو ان مغاوير اليسوعيين خاصة قاموا بوظيفتهم على اكمل وجه ، وما هم الضرر الذي اصاب ، في هذا المجال ، الكنيسة والبشرية في اخوتها العالمية .
ويضاف “انه ليس ممكناً لمسيحي ان يحيا مع الله بطريقة مزدوجة منقسمة الى اتجاهين “. فالاخوة الماسونية من شانها ان تحوّر بصورة اساسية فعل الايمان بحيث ان الايمان المسيحي لا يسمح بالانتماء الى محفل ماسوني ” . فهل يصح القول اذاً ان ليس في الانسانية اخوة اخرى غير التي في المسيحية ؟ وهل من تنافر حقيقي بين الايمان المسيحي والماسونية ؟ مما لا شك فيه انه اذا اردنا ان ننظر جلياً الى هذه المشكلة بعد سرد الوقائع وتبيان المواقف ، بات من الواجب التساؤل عن طبيعة ومضمون وغاية الماسونية ، ومما يتألف فعل الايمان الاساسي للمسيحي ؟ انه الانضمام الى حقيقة الله عن طريق يسوع وكنيسته ويسوع المسيح وحده هو سيد الحقيقة والحياة :” انا الطريق والحق والحياة ” . الى ذلك ، ان قانون الايمان الذي صدر عن مجمع نيقيا Concil de Nicée يعين طبيعة واطار وحدود ذلك الايمان .
يؤكد المسيحي الايمان باله واحد خالق السماء والارض وبابنه يسوع المسيح الذي يعتبر تجسداً لله على الارض . انه مات وقام وسيدين الاحياء والاموات . كما يؤكد الايمان بالروح القدس وبالكنيسة المقدسة الجامعة وبمغفرة الخطايا وقيامة الموتى والحياة الابدية .
وهكذا يوجد وسيط بين الانسان والله ، وهو ليس مبدأ مجرداً ، كلمة او “لوغوس ” ولكنه “اللوغوس ” الذي تأنس متجسداً ، اي انسان ظهر الى الوجود في وقت من تاريخ البشر وعاش بينهم وجاء ليقدم لهم الاخلاص . الى ذلك ، يذكّر القديس بولس الرواقيين بان : ” المسيح هو ما تسمونه انتم الفلاسفة الوثنيين ” الكلمة ” وبأن ما تسمونه حكمة نسميه الايمان بالمسيح ” . وباسكال Pascalيؤكد بدوره وبوضوحه المعهود تلك النقطة الجوهرية من الايمان المسيحي “. نحن لا نعرف الله الا عن طريق يسوع المسيح ، وبدون ذلك الوسيط لا مجال لاي اتصال بالله ” . فالايمان المسيحي يرجع دائماً الى يسوع المسيح . فضلاً عن ذلك ان بعض المسيحيين وخاصة الكاثوليك منهم يعتبرون ان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية هي التي تلقت رسالة المسيح . وبالتالي فانها تلقت وديعة الايمان والوحي ويمكنها وحدها ، بنظرها ، ان تمنحها ضمن العقيدة ، التي هي ، في الكنيسة ، اعلان مضمون الايمان .
بعد ان وضّحنا هذه الافكار لا بد الآن من الاتجاه صوب الدساتير الكبرى للماسونية وخاصة تلك التي لا تقبل الالحاد ، اي الجمعيات التي يؤدي اعضاؤها القسم على الكتب المقدسة لا على السيف ، كما ذكرنا انفاً ، الى ان نبلغ دساتير “اندرسن ” الشهيرة . ومن حقنا ان نتساءل ما هو موضوعها وما هي غايتها ؟ انها تجتهد لتنظيم العلاقات بين المحكومين والحكام ، بين الرعايا والسلطة ، وذلك بشكل عام للغاية .
الماسوني هو شخص مسالم ازاء السطات المدنية وينبغي ان لا يكون له علاقة بمؤامرة ما ضد سلام الامة “وهناءتها ” وفق تعبير الشيخ عبدالله العلايلي .
نلاحظ ونصرّ بحق اذاً على الطابع السلمي للمحافل ونزاهة البنّائين الحرار . ليس من شيء هدام في النصائح التي تعطى او القواعد التي ينص عنها ؟ ان الاعلان الاساسي ” للمحفل الاكبر الفرنسي ” La Grande Loge de France ، يؤكد ان المحفل الاكبر الفرنسي لا يتدخل في اية مجادلة تتعلق بمسائل سياسية او مذهبية . كذلك هي الحال في انظمة الشرق الاكبر اللبناني والشرق الفيدرالي وسائر الجمعيات الماسونية في لبنان .
اما المواد الاخرى من دساتير “اندرسن ” فان لها طابعاً داخلياً وتتعلق بتنظيم المحافل وتسيير اعمالها وبنيانها التسلسلي وهي تنص على القواعد التي يجب ان تسود ممارسة “الحرفة ” وعلى مسلك البنائين الاحرار فيما بينهم ضمن المحافل وفي علاقتهم مع العالم الخارجي غير المساري . ويطلب خاصة من البنائين الاحرار ان يمارسوا فضيلة المحبة الاخوية وهي اساس وحجر زاوية تلك الاخوية القديمة . ولا يرى في ذلك ما يمكن ان يجرح ضمير مسيحي او مسلم او يسلتزم القاء الحرم او قرار بالتكفير .
ولا بد لنا هنا من ملاحظة هامة وهي ان الكنيسة المسيحية وكذلك الاسلام لا يتموضعان على نفس المستوى ولا يمتثلان لنفس الغاية التي للماسونية . فالمسيحية والاسلام دينان تأليهيان يتوخيان ارشاد البشر الى طريق الخلاص والحياة الابدية . والماسونية الاندرسنية لا تعطي بهذا الصدد اية تعليمات او تعليمات مضادة . انها تعبر عن مجموعة ارشادات عملية تهم البناء الحر هنا والآن hinc et nunc . الدين المسيحي وكذلك الاسلام يتوخيان تمكين الانسان من بلوغ السماء . الماسونية تبتغي تنظيم حياته على الارض دون اعتراض طريقه الى الحياة الابدية . وبما ان الاسلام دين والمسيحية دين فسنكتفي هنا ، لمزيد من التبسيط ان نلتزم بحدود الكلام عن الماسونية في البلدان المسيحية خاصة لنرى اذا كان هناك من تعارض .
بناء على ما تقدم ، ان الماسونية بالمعنى الصحيح ليست ديناً ولا كنيسة في مزاحمة
او منافسة مع كنيستنا ويبدو ان الكنائس غير الكاثوليكية قد تفهمت هذا الموضوع اكثر من الكنيسة الرومانية ولا نرى كيف يمكن المقابلة بين هذه الأخيرة والماسونية لإدانتها باسم المبادئ المسيحية . وعلى سبيل المقارنة البسيطة يبدو الامر كما لو استبعدنا من المجتمع المسيحي اعضاء اكاديمية او مؤسسات أخرى تحتضن أناساً آتين من مختلف الآفاق الدينية او الفلسفية .
بالنسبة للبنائين الأحرار ان مسألة الايمان او الدين لا تتموقع على مستوى المؤسسة بل على مستوى الإنسان ، مما يحملنا على تأمل المادة الأولى من دساتير “اندرسن ” .
تؤكد هذه المادة ان على البناء الحرّ ان يمتثل للقانون الخلقيّ وانه بالتالي ” اذا استوعب بشكل حسن المادة الأولى لن يكون ابداً ملحداً غبياً او متهتكاً دينياً “. وهي تصرح ” بان الماسونية لا ترغب في إخضاع الناس الا الى تلك الديانة التي يقبلها الجميع تاركةً لكل فرد معتقده الشخصي “.
وفي اطار تأليهية واسعة النطاق ، يعرّف اندرسن الماسونية الحرة بأنها نوع من مجال فارغ يمكن فيه التقاء اناس لهم معتقدات دينية وقناعات علمية مختلفة . في هذا المجال في هذا المكان ، يمكن لكل ماسوني ان يشهد بعقيدته الدينية او الفلسفية تحت غطاء من التفهم والتسامح المتبادلين . ولأن الماسونية بحق لا تاخذ على حسابها اي شكل من أشكال الوحي فبامكانها ان تبقى حقاً محور الاتحاد .
مرة اخرى وبحسب التقليد الماسوني انه من حق كل فرد ان يختار عقيدته الايمانية وان يعيشها . الماسونية لا تفرض ، ومن البديهي انها لا تمنع اي ايمان شخصي . ومع ذلك فالمؤسسة الماسونية موضوع اعتراضات اخرى تستند الى الطابع الرمزي للأسلوب الكلامي الماسوني وللطابع الاسراري Initiatique للمؤسسة .
صحيح ان البنائين الاحرار يعيشون في عالم من الرموز وانهم يستعملون لغة رمزية . ولكن بماذا يتعارض الرمز مع الايمان عامة والايمان المسيحي خاصة ؟ واذا صح القول ان الرمز بمفهومه يدعونا ، على مستوى المكشوف والظاهر ، ان نبحث ، ما وراء الظاهرة ، عن الذات نفسها ، الا يتوجب القول ، بعكس ذلك ، انه يعيد الوعي الانساني الى نوع من الحس بالمخفي وبالمقدس افقدتنا اياه حضاراتنا الحديثة ؟
اما عملية المساررة Initiation الماسونية فلا يمكن تشبيهها باحد الاسرار الدينية Sacrements . وخلافاً للأسرار الدينية ان الطقوس التكريسية لا تحمل ولا تنقل اية “نعمة ” ( بمفهومها الديني ) ولا تمكننا من ولوج الحياة الابدية ونيل الخلاص . ان المساررةInitiation الماسونية هي اكثر عملية وانسانية :انها تبغي تطوير الانسان “هنا والآن ” ، وارشاده الى الطريق السوي وفتح سبيل امامه لتطوير فكره وذاته . وكما يدل عليها اصلها ، تعني هذه الكلمة بداية ولحظة مهيبة تحث الانسان على وعي ماهيته وما يجب ان يكون ، اي بداية بحث وسعي روحي وبناء خلقي .
والماسونية في إطارها التأليهي الواسع والمنفتح جداً تحت لواء “مهندس الكون الاعظم” تؤكد حرية الضمير والبحث عن الحقيقة . وهي تؤكد ، في الوقت عينه ، الصداقة واخوّة البشر المتحدين في هذا السعي والذي بفضله وبحسب الهامهم الشخصي يجدون في السير معاً نحو النور . انها ترسي أسس مجمتع يتواجد فيه ويجتمع اناس ينتمون الى عقائد دينية وفلسفية مختلفة باحترام لأفكارهم .
وهذا هو ما يشكل حقيقتهم. ان الماسونية تبغي جمع البشر واتحادهم بالرغم من اختلافاتهم وفيما يتعدى هذه الاختلافات ، ليس ربما باسم الحقيقة ، ولكن ، وبصورة اكثر تواضعاً ، بالبحث عن الحقيقة .
هل الماسونية في تناقض مع ما يظهر في عمق العقائد الدينية وبالأخص العقيدة المسيحية ؟ لا نعتقد ذلك . وعندما نؤكد الآراء السابق ذكرها هل تكون في تناقض مع تعليم آباء الكنيسة ، او مع بعض تصريحات المجمع الاخير او مع الاناجيل ؟ او ليس القديس اغسطينس هو الذي سبق وعلمنا ” ان لا يدعي احد منا انه وجد الحقيقة “. لذلك نحن نرغب في البحث عن الحقيقة كما لو يكن هؤلاء او اولئك يعرفونها . والوسيلة الوحيدة للبحث عن الحقيقة بروح سلمية هي ان يستبعد كل من الفريقين كل رأي مسبق التصور ، كل حكم محفوف بالمخاطر ، وان يعدل عن الاعتقاد بأنه وجد الحقيقة ويعرفها . “والقديس اغسطينس يعني بذلك ان طريق الحقيقة يمر بطريق الحياة الداخلية ” . ” لا تذهب خارجاً بل ادخل الى ذاتك لأن في قلب المخلوق تقطن الحقيقة “.
وانه ليبدو لنا ذا تعبير ان يكون احد المبادئ الأولى للماسونية معرفة الذات . ان شعار “اعرف نفسك بنفسك ” ، العزيز على “سقراط” ، عزيز ايضاً على البنائين الاحرار وهو مكتوب في غرفة التأمل ، ذلك المكان الذي يدعى فيه الغريب الى التأمل قبل تكريسه ماسونياً . ان الدين مع الحقيقة لا يمر بمؤسسة بل بالبحث عما في الداخل وذلك البحث مرتبط ، بالنسبة للماسوني بحريته . هل ما زال ايضاً بين التعاليم الخلقية الماسونية والكنسية تناقض جذري او تعارض اساسي ؟ هذا غير وارد في رأينا ، خاصة اذا قرأنا تلك الاساطير من قاموس الاديان الذي قدم له “المونسينيور بوبار Mgr Poupard ” ، صاحب المقام الرفيع في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية :”الكاثوليكية – يقول “المونسنيور بوبار ” – لا تحكم بالاقصاء الجذري ، في السعي الى الله ، على جميع اشكال التفكير الفلسفي وطرائق المسعى الاخلاقي وجميع التعبيرات عن الموقف الديني “. من يتجرأ على التفوه بمثل هذا الكلام ؟
وتبدو لنا اكثر مغزى تلك التصريحات لمجمع الفاتيكان الثاني :” ان كرامة الشخص البشري هي ، في زماننا ، موضوع وعي اكثر توقداً ، ويزداد دوماً عدد الذين يطالبون للإنسان بامكانية العمل بحكم اختياراته الشخصية ومسؤوليته الحرة ، وليس تحت ضغط اكراه ما ولكن بهدى من وعيه لواجبه “.
كما ورد ايضاً :” للشخص البشري حق في الحرية الدينية ” وهذه الحرية تفترض تحرر البشر من كل اكراه من قبل افراد او كتلة اجتماعية او سلطة بشرية من اي نوع كانت ، بحيث لا يجبر احد ، ضمن حدود صحيحة ، على ان يعمل خلافاً لضميره “. ويضيف ” لا يمكن ارغام احد على قبول الايمان عنوة عنه “. او ليس ذلك ما اكدته الماسونية على الدوام : تلك الحرية في مجالات المعتقد والفكر ؟ اخيراً وبنوع من التأثر ، نقرأ في منشور Ecclesiam suam للبابا “بولس السادس “Paul VI عام ۱۹٦٤ : ” يجب قبل التكلم للحوار هو الصداقة “. والمحفل الماسوني هو رابطة الصداقة تلك وذلك المكان الصالح لحوار اخوي بين الناس ذوي الارادة الطيبة .
الى ذلك ، يقول لنا يوحنا في رسالته : ” ان احداً لم ير الله ابداً . واذا احببنا بعضنا بعضاً ، الله يقيم فينا ” وايضاً الله محبة ، والذي يثبت في المحبة يثبت في الله والله يثبت فيه وايضاً الذي يدعي انه النور ويحقد على اخيه ، هو في الظلمة ، والذي يحب اخاه يثبت في النور ” . هنا ، المحبة الاخوية بين الناس هي الشرط الاول وهي تتيح للبشر تعديّ تناقضات المذاهب والعقائد . لذلك لا نرى ان في الشكل او في المضمون ، ما يحملنا على القول بأن هناك تنافراً بين المسيحية والماسونية ، اذا ما تكونت لدينا فكرة صحيحة عن هذه وتلك .
فيما يتعلق بالماسونية التقليدية ، هناك فضيلة اولى هي الصداقة والمحبة . وللبنائين الاحرار ماضٍ وتقاليد تشهد ايضاً بأن الانسان يعرّف عن نفسه بأنه حرية ولا يسعه دون انكار نفسه ان يتخلى عن هذه الحرية ، حرية دون تجاوز في البحث عن الحق والخير بحيث يكون القانون الخلقي ركيزة هذا العمل .
وفي ساعة من احرج الساعات واكثرها مرارة في التاريخ ، وفي وقت احتدمت فيه الصراعات ، منها الدينية ومنها السياسية ، التي ادمت اوروبا ، وفي الوقت الذي بدت فيه تلك حائرة تشك بنفسها وقد اخذها دُوارٌ وبدت تتداعى وتشك في مصيرها ، حاولت المحافل الماسونية معالجة تلك المشاحنات المهلكة بالدعوة الى روح من التسامح والحرية ، حاملة في الوقت عينه رسالة اخوة ورجاء ، والادوات التي تتيح المجال لتحقيقها .
واذ نحن اليوم في اواخر هذا القرن العشرين ، في هذا الوقت من التاريخ الذي عادت فيه شياطين البربرية الاكثر وحشية ، والعنف الاكثر جنوناً والحقد الاكثر فتكاً تتحكم بالمجتمعات وبالبشر ، في وقت يدب فيه الانحراف العام في نفس البشر بحيث لم يعودوا قادرين على معرفة مكان وجود الحقيقة ولا يريدون التمييز بين الخير والشر ويخلطون بين الظلمة والنور . في وقت تسعى فيه قوى الدمار بمختلف الوسائل لتشويه طبيعة الانسان واذلاله واعدامه وتبدو احياناً مستقوية على الذين يجدون في تجميع البشر وبناء الانسان ذاته والسمو به الى اعلى ، في وقت تتداعى فيه حضاراتنا القديمة ويصل فيه الأناس الطيبو الارادة الى حد الشك بالقيم الروحية ، نعتقد انه من الملحّ والضروري ان نطلق مرة اخرى نداء يرمي الى اتحاد البشر بالرغم من خصوماتهم وانقساماتهم بحيث يتعلمون معرفة بعضهم بعضاً ، ومن هنا ان يحبوا بعضهم بعضاً .
لم يعد الوقت لخلافات سخيفة تخطاها الزمن ، خاصة لأنها اصبحت من الماضي . ولم تعد الساعة ملائمة لفرض الموانع واقل من ذلك لإلقاء الاحرام . انها ساعة اتحاد قوى النور بوجه قوى الظلمات لنه حان الوقت لايقاظ الانسان من غفلته اذا اردنا تخليص الانسان وانقاذ البشرية .
لذلك حاولت جماعة مختلطة ، ماسونية دينية ، في فرنسا ، ان تقوم بعمل ما ، كما ذكر سابقاً . ولقد وجدت ، فيما يتعلق بها ، انه بفضل شريط كاسيت – فيديو يمكن الجمع بين الصورة والكلمة ، بين القول والفعل ومعاينة العبور من اللعنة الى الحوار . وتعود هذه البادرة الى المونسنيور ” توما ” السابق الذكر والذي بدأ كل شيء بالنسبة اليه قبل عشر سنوات، اذ اتصل به الاب رينيه برتييه المعلق السابق في اذاعة اوروبا /۱/ والضليع في الحوار مع البنائين الاحرار . التحق مطران ” فرساي ” بفريق عمل تابع للمحفل الاكبر الفرنسي . وكان هذا الفريق الذي يضم اربعة كاثوليكييين ويهودي واحد وارثوذوكسي واحد ولا غنوصي واحد جميعهم من البنائين الاحرار ، يتمنى الشروع في حوار مع ممثلين للكنيسة . وكان قد تم الاتصال بمطارنة آخرين ولكن احداً منهم لم يجرؤ على المخاطرة . من جهة المحفل الاكبر الفرنسي مثلاً ، كانت الامور تبدو اكثر سهولة . ” ان هذه اللقاءات تدخل في اطار سياستنا لتقارب القوى الروحية منذ العام ۱۹٦۰ ” . هذا ما صرح به “جان لويس ماندينو ” الذي كان احد الماسونيين الثلاثة مع “هنري تور نوغ ” Henri Tort – Nougues وديدييه دومون Didier Dumont الذين جرت معهم المقابلة في شريط الفيديو . وجان لويس ماندينو هو الاستاذ الاعظم الحالي للمحفل الاكبر الفرنسي والخلف الجدير لريشار دوبوي Richard Dupuis وميشال بارا Michel Barat اللذين عملا كثيراً للحوار مع المسؤولين الدينيين وخاصة مع الكنيسة الكاثوليكية .
ولكن في اليوم المحدد للمؤتمر الصحفي استدعي المونسنيور ” توما ” من قبل القاصد الرسولي الذي سلمه رسالة من الكاردينال “راتسنغر ” المشهور بعدائه للماسونية يطلب منه فيها العدول عن بث شريط الفيديو . ماذا يمكن ان يفهم من كل ذلك ؟ ولكن لا يجب ان نفقد الامل لأن الحوار هو امر واجب ولا بد ان تصفى الاجواء في يوم ما لخدمة الانسان والانسانية .